بقى ذلك مستحيلا، لم يتسلل الشك يوما إلى قلبي، ولم أشعر باليأس في أحلك الظروف، بهذه الكلمات الإيجابية كان يحدث علاء بها رفاقه، كان علاء يعي ما يقول فهو صادق بكل كلمة.
علاء ابن مدينة سراقب المحتلة حمل السلاح كما حمله كثير من السوريين، دفاعا عن أرضه وأهله، يقول علاء:
يوما ما أدركت أن الثورة السورية لا يمكن أن تنتصر بالشعارات الحماسية أمام ترسانة الأسد الدموية، مازلت أذكر عندما قبضت على زناد البندقية لأول مرة حينها شعرت أنني قادر على فعل المستحيل، منذ ذلك الحين تملكتني طاقة عجيبة يصعب شرحها، لكنني أيقنت حينها أن الإيمان ومن بعده عزيمة الرجال يمكن أن تقتلع الجبال من جذورها.
منذ نحو 10 سنوات كنت أشارك في تحرير المناطق السورية قرية فقرية ومدينة فمدينة، ثم أعود إلى مدينتي سراقب فأراها عروسا متزينة بوشاح الحرية، أدخل بيتي هامسا بيني وبين نفسي، لن يدخل المدينة غاز ما دمت حيا.
تلك كانت قناعة لأحد الشباب الذي ألزموا أنفسهم بالدفاع عن قضية محقة لا يختلف فيها اثنان، نعم كان علاء صادقا في وعده، يتحدث محمد أحد رفاق الدراسة ومن ثم السلاح: كان أبو سعد يمتلك حماسا منقطع النظير، وإيمانا راسخا عميقا لا تعكره انتكاسة هنا أو تراجع هناك، ففلسفته كانت ( كل شيء فيه خير) كما كان يردد دائما :” لن يصيبا إلا ما كتب الله لنا”.
أبو سعد كما يحب أن يكنى أعطى وطنه كل حياته، يتذكر جيدا أبو عدنان -أحد رفاق والد علاء، ذو الستين سنة، صاحب أقدم محل بقالة في الحي- أن علاء الطفل الصغير قد كبر بسرعة وأصبح يتكلم بكلام لا يفهمه العم أبو عدنان، كانت تجمعهما ناقاشات حادة حول الحملة الأخيرة التي شنها المحتل الروسي عام 2019، كان العم أبو عدنان صاحب نظرة سوداوية يرى أن أحداث حماة التي عاصرها ستعود، ولا فائدة من المقاومة والعمل فالشر أقوى من الخير، والعالم كله متآمر على الشعب السوري الثائر، لكن علاء كان له رأي آخر حاول أن يقنع به العم أبو عدنان مرارا وتكرارا، إلا أن الخوف حال دون ذلك، فما عاشه منذ عقود وشاهده وسمع به، حريٌّ به أن يجعله يفكر مليا قبل أن يقاوم حيوانا لا ذمة له ولا ميثاق.
لم يفكر العم أبو عدنان بالنزوح عندما اقتربت المعارك من مدينة سراقب، ولا حتى عندما بدأت القذائف تنهال كالمطر على المدينة، فمحله المعزول في إحدى الأحياء المتطرفة، كان شريان الحياة لبعض العوائل التي لم تخرج من المدينة رغم كثافة القصف، لم يكن يخلو يوم إلا وتشتد فيه النقاشات الحميمية بين العم أبو عدنان وعلاء، وفي كل مرة كان يخرج الاثنان بنتيجة سلبية، فكل واحد منهما متشبث برأيه، الأول متيقن من دموية عدوه وهمجيته، والثاني متيقن من عدالة قضيته وقوة الثورة بأبنائها، فالحق لا يموت أبدا، وإن طال عمر الباطل.
اقتربت المعارك أكثر فأكثر، وعلاء ثابت كثبات الجبال، كان في بعض الأحيان يتساءل محمد هل من الممكن أن يدخل المحتل مدينة سراقب، فيجيب علاء: لن يدخلوها على جثتي.
تلك الإجابة كانت تولد طاقة إيجابية هائلة لدى المقاتلين من حوله، فما زال مؤمنا بالنصر حتى في ظل التراجع الجغرافي.
حملة المغول كانت تحرق أمامها الأخضر واليابس، إلا أنها جوبهت بصمود أسطوري من أصحاب الأرض. وفي إحدى المعارك الضارية التي كانت على أسوار مدينة سراقب، كان علاء هناك حيث البذل والتضحية، حيث الوفاء بالعهد والوعد، بدأت المعركة حينها بتمهيد كثيف من شتى أنواع الأسلحة، كلها كانت موجهة نحو بقعة صغيرة، لكن رفاق أبي سعد صمدوا لأكثر من يومين دون أن يتمكن العدو من إحداث أي خرق بعد عدة محاولات.
في اليوم الثالث كان هو اليوم الأكثر ضراوة وشدة، ومع خيوط الفجر الأولى نشبت معركة طاحنة إثر محاولة جديدة من العدو، فشلت المحاولة بعد اشتباكات عنيفة، لكن علاء وفّى بوعده، وارتقى شهيدا دفاعا عن أرضه وعرضه ودينه، ارتقى وشعاره لن تمروا فوق أرضي ولن تدنسوها، فهي حرة طاهرة من رجس المحتلين.
أرادها بيضاء ناصعة البيضاء، خضراء بأشجارها، فأبت إلا أن تصطبغ باللون الأحمر، بعد أن شربت من دماء أبنائها حتى ارتوت، رحل علاء بعد أن برّ قسمه وقدم نفسه رخيصة في سبيل الله.