الذكرى حية ما دامت آثارها حية، والجراح وإن اندملت سيبقى أثرها، ومن الصعب بمكان أن ينسى الإنسان الظلم والظالم، حتى وإن درست المعالم، فالقلب المدمى لا يبرأ وإن تكفل الزمان بذلك.
ما زالت سمفونية مفتاح الموت تتردد في مسمعي عندما يدور في القفل ثلاث دورات فجائية، كأنها طارق ليل أراد شرا بأهل دار، لن تذهب تلك الأصوات، فصرير الباب، وأنات العذاب، شيبا وشياب ستبقى تلازمني حتى الممات.
نعم إني أذكر جيدا سجن الموت، أذكر جيدا 3 سنوات من عمري أمضيتها كحياة البرزح إن صح التعبير بين الموت والحياة، قصتي بدأت عندما ترجلت من حافلة كانت تقلني من مدينتي الرستن إلى جامعة حمص، وجهتي كانت حينها كلية العلوم، والغاية تقديم امتحان مادة اللغة عام 2012، كنت أحمل جرما عظيما دون أن أدركه، الجرم مدون على بطاقة صغيرة تدعى “الهوية” نعم فقط بوجود عبارة الرستن على بطاقتي الشخصية، هذا مبرر لأن أخضع لمحكمة عسكرية ومن ثم الموت دون أن يحق علي أن أنطق ببنت شفة، كان الجندي على الحاجز فظا غليظا غبيا، كأنه بعث من عصر الجاهلية لا يفقه شيئا، بُرمج عقله فقط لينتقي طائفة معينة من المارة والمسافرين، ويطرحهم أرضا برفقة ذئاب بشرية مفتولي العضلات.
نزلت حينها مستهجنا سبب ذكر اسمي ولم أكن أعلم أنها ساعة تجريدي من جميع حقوقي الإنسانية، تلقيت سيلا من اللكمات والضربات والتهم التي لم أسمع بها من قبل، وكأنني أنا من احتل فلسطين ودمر العراق وقسم السودان ونهب ثروات سورية، فقدت الوعي حينها أكثر من مرة، وبعد ساعتين تقريبا وجدت نفسي في الزنزانة.
هنا بدأ جزء حياتي الأصعب، رائحة الموت تفوح بالمكان والصمت المخيف يقطعه أنين خافت، لوهلة ظننت أنني قد غيبت الثرى، وأني دخلت قبري، رطوبة وظلام وخوف كل ذلك يشبه القبر بالإضافة لضيق المكان، كان كل شي محظورا حتى الشهيق والزفير كان يجب أن يكون خلسة من السجانين، نعم ذلك الوصف يقف عاجزا عن إيصال الصورة الحقيقية للمكان.
تبدأ الرحلة الروتينية مع ألحان مفاتيح السجان حاملة معها رسائل الموت، يدخل إلينا أشخاص بقلوب حيوانية تتعطش للدماء والانتقام والطائفية، يضربون هذا ويركلون ذاك حتى تقع أيديهم على اثنين أو ثلاثة، فيجرونهم خارج الزنزانة كأضاحي العيد، والدماء ترسم خطوطا خلفهم، كانوا في بعض الأحيان يعودون وفي أغلب الأحيان لا يعود أحد منهم، كانت دورة الحياة متوازنة يخرج أشخاص إلى مذابح الحرية ويدخلون آخرون بجريمة الحرية، كان يقع علي الاختيار كل مدة لا بأس بها، فأُخرج من الزنزانة سحلا كجيفة نافقة، والذئاب حولي توجه لي عشرات الضربات والركلات والألفاظ النابية، حتى يغمى علي فأستيقظ على الماء البارد في الشتاء وقد ألقي على وجهي، ثم تعاد الكرة وهكذا، ثم أتعرض لنوع من التعذيب يسمى “الشبح” وربما تعرضت للكهرباء أو الحرق بنار الشمعة وغيرها الكثير من أنواع التعذيب المختلفة، حتى يملَّ السجان مني فيعيدني للغرفة وأنا بين الحياة والموت.
نعم إنه سجن الموت في صيدنايا، ودعت الكثيرين وقد فارقوا الحياة، وشهدت أنات الكثيرين، وكنت شاهد عيان على ظلم طغمة حاكمة لا تشبه البشر، قضيت 3 سنوات من عمري وأنا في عنفوان الشباب، ثم خرجت بعاهة دائمة في قدمي اليسرى وعيني اليسرى، لم أكن أحلم يوما أن أرى نور الشمس، فالموت كان الأقرب دوما لكن أملا صغيرا كان يتسلل إلى قلبي بين الحين والأخر، لم أكن لأروي قصتي لولا أن منّ الله علي بالخروج بعملية تبادل أسرى بين الثائرين وعصابات الإجرام، لكنها مشيئة الله، لأكون شاهدا على جرائم لم يشهد التاريخ لها مثيلا لا قديما ولا حديثا.
سأبقى متمسكا بقضيتي، وسأبقى أسعى للانتقام من أولئك القتلة، حتى أعود فاتحا ومحررا لمدينتي الرستن، وكلّي لهفة لذلك اليوم عندما أرى الميليشيات الطائفية تجر ذيول الهزيمة وتنجلي عن بلادي وبلاد أجدادي.