حياة قصيرة بزمنها، حافلة بأحداثها نعشق فيها أرواحا ونتآلف مع أخرى، وننفر من بعضها، لكن أجمل مافيها هي الأخوة، من أعظم هبات الله للإنسان الأخ فكيف إذا كان الأخ هو الصديق والملاذ وقت الشدائد.
بدأت قصتي مع لحظة غيرت مسار حياتي، فقبل ذلك كان كل شيء يجري على ما يرام، أو على الأقل كما نريده، تعلمنا في المدرسة سويا، كبرنا سويا، عشنا لحظات الثورة السورية الأولى سويا، لم أكن أتخيل يوما أنني سأكون يوما وحيدا أواجه الدنيا بيدين عاريتين.
أخي سعد لم يكمل دراسته الجامعية في جامعة حلب في تخصص الرياضيات، بسبب المضايقات الكثيرة التي كان يتعرض لها من الشبيحة وعناصر الأمن للطلاب حينها، تعرض للاعتقال التعسفي عدة مرات بحجج واهية كان الغرض منها تحطيم عنفوان الشباب لديه وثنيه عن التظاهر للمطالبة بحريته، فضاق ذرعا بذلك وقرر ترك الجامعة والعودة لقريته الصغيرة بريف حلب الشرقي، تلك القرية المنتفضة برمتها شيبا وشيابا ضد عصابات الأسد.
عاد سعد قافلا من رحلته التعليمية دون أن يبلغ هدفه، عاد ليجد نفسه مرغما على حمل السلاح، فحملات الأمن المتلاحقة تعتقل ابن عمه وتجمع إتاوات من جاره، وتفعل وتفعل ….
أجبر على حمل السلاح بعد أن رأى حربا شعواء على السوريين بسلاح السوريين لكن بأيدٍ غادرةٍ، فحمل السلاح مدافعا عن حقٍّ مسلوب وكرامة ضائعة ….
لم يكن أخي ضليعا في الحرب فهو حديث سن، لكن غيرته على بلده ودينه وعرضه كانت كافية لتجعل منه مقاتلا مرا صعب المنال، بدأ سعد يخوض المعركة إثر المعركة بريف حلب الشرقي ويحضر معارك التحرير، فيروي الملاحم البطولية التي يصنعها ورفاقه، كأنه يروي لنا ضربا من الخيال أو قصصا من الزمن الماضي، كان القلق يساور أمي مع كل مرة يخرج فيها، وأبي كان يرمقه بعينين ذابلتين تحضنه إن غدى أو راح…
ما زلت أذكر لحظات الوداع عندما سار سعد نحو سيارة امتلأت بالشباب المتحمس يحملون أسلحتهم، ويكبرون ويهللون والتفاؤل يملأ محياهم، كيف لا وهي معركة فك الحصار عن حلب، كانت لحظات الوداع كأي مرة يخرج فيها لكننا لم نكن نعلم أنها الأخيرة، خرج ببندقيته الأنيقة والتي كان يحرص على تنظيفها أكثر من نفسه، وكعادته يضع العطر الفواح وفي فمه السواك، والبسمة المعتادة والنظرات الاعتيادية، نظرات القلق والخوف من المجهول….
إنها الساعة التاسعة ليلا يوم الأربعاء، أبي يتلقف الأخبار فور إعلانها عبر وسائل التواصل من أرض المعركة، وأمي لا يفتر لسانها بالدعاء، كنا نخوض المعركة لحظة بلحظة قلوبنا معلقة بها، ونتابعها بشغف، تلك الليلة لم تكن ليلة عادية، فهناك في حلب، على ثرى الشهباء، وقع ما كنا نخشاه، تلقينا خبر ارتقاء أخي في ساحة الوغى مقبلا غير مدبر، فجاء الخبر كالصاعقة لم نصدقه للوهلة الأولى، فالخطب جلل.
فجأة أضحت المعركة تلك حدثا تاريخيا لي ولعائلتي، فالحادثة أصعب من النسيان أو التأقلم معها، طعم الفقدان وإن ألفته النفوس فهو صعب أن يستساغ، نعم هنالك قتل أخي في حلب العز والصمود، على أسوارها وهو يحاول فكّ الحصار عن إخوانه وأهله المحاصرين.
ترجل سعد لتنتهي مسيرة حافلة بالتضحيات والبذل، فهو ذاك الشاب الذي ترك تعليمه، وحمل السلاح وجاد بدمائه وروحه دفاعا عن أعراض السوريين وأرضهم، لم يكن سلبيا، لم يفكر بالهروب للخارج ليبحث عن حياة زائفة زائلة لن تعود عليه إلا بالتعب والشر، فاختار أقصر الطرق نحو الحياة الأمثل، حياة الخلود، فكان إيجابيا عندما اختار أن يكون مدافعا عن حقوق أهله وشعبه، ثم اختار الآخرة الباقية على الدنيا الفانية….