لكل فعل ردة فعل.. قاعدة مشهورة لم أكن أدرك مغزاها عندما تعلمتها على مقاعد الدراسة في الخامسة عشرة من عمري، ولكن الحقيقة أنها قاعدة تتجسد واقعا في الشارع والسوق والحياة والسياسة والحرب والسلم وفي كل شي.
كنت أعيش في أحد أحياء دمشق الوادعة تحت كنف والدي، أتمتع بدفء الأسرة وأحب الحياة، لدي أصدقاء ومدرسة وعالمي الخاص الذي كنت أراه بألوان زاهية، كانت الحياة تفتح ذراعيها لي حينذاك، وكأي طفل سوري شهدت عام 2011 العام الذي غير عائلتي والحي الذي أسكن فيه بل غير العالم أجمع في نظري.
كانت انطلاقة الثورة السورية بداية رحلة الانعتاق من العبودية وسني الظلم والقهر وهكذا كان يردد والدي، حين تسأله أمي عن سبب خروجه للمظاهرات مع استشعارها بالكم الهائل من الأخطار المحدقة بأولئك العزل الذين ظنوا بتفكيرهم البريء أن حناجرهم وتصفيقهم وصيحاتهم الحرة ستسقط طاغية حكم سوريا وعشعش في جبالها وانتزع الحكم والسلطة على جماجم السوريين، مظاهرة تلو المظاهرة والناس يسقطون وأمي تناشد أبي بالكف عما أسمته “عبثا” فسياط الجلاد كان صوتها أقوى، ولكن أبي كان مصرا على موقفه الذي يعده بطوليا موازيا لبطولات مقارعي الاحتلال الفرنسي والصهيوني، بل كان أبي يظن أنه يحارب عن أمة بأسرها عبر صوته وتكبيره في ساحات دمشق.
لم يطل الأمر كثيرا حتى وقع ما كانت تخشاه العائلة بل ما كانت تخشاه كل أسرة عايشت المظاهرات حينها، إثر إحدى المظاهرات المسائية الصاخبة بالأهازيج الحماسية عام 2012 كان مصير الاعتقال ينتظر أبي ومجموعة مؤلفة من 6 أشخاص كانوا برفقته أثناء عودتهم من المهرجان الثوري البطولي، وصلنا الخبر كالبرق تتقاذفه الألسنة والآذان، كانت صاعقة أصعب من أن تصدق في وقتها بل تحتاج قلبا شديدا ونفسا متماسكة حتى تستوعبها، نعم ما يسمى بميليشيا الأمن الجوي اعتقلت أبي، فهرعنا أنا وأخوتي الصغار أخبرنا أحد أقاربي، بحثنا… فتشنا… ذهبنا للأفرع الأمنية المتوحشة… لم نلق جوابا بل كنا قاب قوسين أو أدنى من أن نكون ضحايا جددا على يد عصابات الظلم والطغيان.
يوم واثنان وثلاثة وأملنا في العثور عليه بدأ يتضاءل والواقع الجديد يتجلى شيئا فشيئا والحياة الملونة تبددت فلم أعد أرى إلا الأبيض والأسود، وهما لونان لم يكونا أكثر سوءا من لون سأعتاد عليه لاحقا، وها هي تمر سنة ونصف ولا ندري عن أبي شيئا، كان الواقع محتملا على الأقل وحتى صيف عام 2013 الذي لا أنساه أبدا.
خرجت برفقة أمي نحو سوق الخضار نطلب طعاما، كان الأمر يسير على ما يرام حتى تلك اللحظة، عندما سقطت قذيفة مدفعية مصدرها عصابات الأسد وسط سوق الخضار حينها لم أعد أسمع أو أرى شيئا بعد لحظات عاد إلي وعيي وعندما فتحت عيناي وجدت أشلاء وجرحى وسمعت أنينا وصراخا وعويلا، ساعدي كانت تنزف، صرخت أمي أمي يدي تنزف لكنها لم تجب، لم تتلقفني كسابق عهدها بلهفة، لم أر خيالها يحنو علي عندما أشاك بشوكة كما هي الأيام الخالية، رأيت ظلها مسجى على قارعة الطريق تغرغر في آخر لحظاتها، يا الله…….. أمي اقتربت منها كانت في الرمق الأخير والجراح تسيل دما سابقت دموعي دمائي التي تنزف فلم أعد أعرف أيهما غزارة، بدات أمي تنتفض وتنظر إلي وتشخص بصرها نحوي أحسست أنها تريد أن تقول شيئا، لم يطل الأمر حتى فارقت الحياة، آه ما أشد ذاك القهر نعم ماتت أمي بين يدي ناظرة في عيني، ليتني لم أرها ليتها ماتت قبل أن أصل إليها ما أصعب ذال المنظر وهي تنظر إلي وكأنها تودعني، ليتني لم أشهد ذلك الموقف.
شهور عديدة مرت على تلك الفاجعة حتى استطعت أن أستوعب الصدمة، ولم أعد بعدها طفلا رغم حداثة سني، بل كنت يتيما كل ما يريده هو البحث عن الثأر لوالديه، لم يكن للدنيا طعم وقيمة عندي، كل ما يشغل بالي هو الثأر، الثأر فقط، لم أتوان للحظة عن حمل السلاح والانضمام إلى الفصائل الثورية، فمشهد أمي وهي تحتضر ووضع أبي القابع في زنازين الإجرام لم يفارقاني، بل كانا حافزا لأكون في الصف الأول في كل معركة على عصابات الأسد المجرمة، ولست الوحيد الذي دمرت حياته وفقد والديه، فهناك الآلاف ممن يطلبون ثأرا قديما متجددا مع كل مجزرة يرتبكها المحتل وأذنابه.
نعم لهذا حملت السلاح ولن أضعه حتى أظفر بثأري أو ألحق بأمي..