لم يكن لدي أدنى شك بانتصار الثورة السورية ومنذ اللحظات الأولى لانطلاقها بل إن النصر كان واقعا يترسخ يوما بعد يوم وذلك بتحرير القرى والمدن والبلدات، مع قلة الأسباب وضعف الإمكانيات.
لن أنسى تاريخ الثورة الذي عشته في مدينتي لحظة بلحظة لأنه حفر في الذاكرة ويستحيل محوه، نعم كان لمدينتي “خان شيخون” نفسان تنفست فيهما الحرية الشماء الأول عام 2011 عندما طرد عناصر الأمن في نظام الأسد، والثاني عام 2014 عندما تحطمت حواجز الأسد البالغ عددها أربعة وعشرون بعد حصار طويل للمدينة وأهلها.
كان التحرير عرسا شعبيا فرح فيه الكبير والصغير ليس في المدينة وحدها بل في المنطقة بأسرها لما كانوا يقاسونه من مدفعية الحواجز وصواريخها، تلك الحرية طالما كانت تغيظ الأسد وداعميه فحرصوا كل الحرص على صبغها بالأحمر تارة وبالأسود تارة أخرى مستخدمين في ذلك شتى أساليب الإجرام، حتى غاز السارين القاتل.
عاشت خان شيخون 5 أعوام تتنشق الحرية حتى عادت لتتشح بسواد الغزاة عام 2019، كان سقوطها صاعقة زرعت الحزن في قلوب السوريين، وللسقوط قصة تمثل الصبر والإصرار وتجسدهما بكل ما تعنيه الكلمة.
سقوط المدينة بيد الاحتلال الروسي وعصابات الأسد لم يأت من فراغ ولا من استهتار بل كان نتيجة حتمية لعدم تكافؤ القوى، وكانت آلاف الأطنان من القذائف المختلفة تنهال على المدينة ليل نهار بدأت بداية عام 2019 واستمرت نحو 6 أشهر، والضحايا حتما كانوا أطفالا ونساء وشيوخا، كانت المدينة تودع أبناءها يوما بعد يوم فمنهم من متشبث بأرضه ومنهم من ينتظر ملل الغزاة وانتهاء المحنة، ومنهم من بقي مرابطا محتسبا يكثر سواد قومه في وجه محتل غاشم، المحنة الطويلة القاسية أجبرت بعض الأهالي على النزوح نحو الشمال المحرر، والبعض الآخر فضل الخروج نحو المزارع المحيطة بالمدينة.
كان القصف جنونيا لنحو 6 أشهر بيد أنه اشتد كثيرا حتى إنك لن تجد دقيقة واحدة تخلو من قذيفة دبابة أو راجمة أو غارة جوية أو مروحية تلقي بحممها فوق ركام المدينة، فكان من الصعب بمكان العيش هناك، وكانت طائرات استطلاع العدو تعمل على مدار 24 ساعة وأي إنسان كان يخرج من بيته نهارا يتعرض لقصف مباشر، فبات الناس يسعون لسبل عيشهم وتأمين مستلزماتهم ليلا
ومع انتهاء الربيع خلت المدينة من سكانها الذين آثروا الانتقال إلى أطرافها، إلا أن ذلك لم يدم طويلا فالمحتلون جعلوا يستهدفون الناس في مزارعهم وحقولهم وعلى الطرقات، فكانت الطائرة الحربية تستهدف بالرشاشات الراجل قبل الراكب والفرد قبل الجماعات، فبات العيش مستحيلا، بعد استهداف جميع المرافق الحيوية بما فيها أفران الخبز ومحطة المياه، فما بقي للناس إلا أن يخرجوا في ساعات الليل المتأخرة عندما كان يهدأ القصف والاستطلاع أحيانا.
بعد تلك الحملة الهمجية على المدينة وأهلها والفصائل المرابطة حولها، بدأ الاحتلال الروسي مستعينا بميليشيا فاغنر بالاقتحامات الليلية متبعا تكتيكا قتاليا مغايرا للمعهود من العصابات، كنت حينها أشاهد المعارك الليلية من منطقة قريبة من المدينة مشرفة، فأرى معارك ضارية بذلت فيها الفصائل بذلا سخيا إلا أن القوى لم تكن متكافئة.
بدأ العدو يقترب شيئا فشيئا مستخدما سياسة الأرض المحروقة، واللافت أنه لم يستخدم أسلوب المواجهة المباشرة بل اعتمد على الالتفاف فكاد أن يطبق الحصار على المدينة فخرجت آخر العائلات الصامدة وقتئذ دون أن يحملوا من أملاكهم شيئا، وفروا بدينهم وأرواحهم من محتل غاصب.
أحكم الحصار على المدينة في العشرين من شهر آب عام 2019 بعد معارك عنيفة سطر فيها الثائرون أروع ملاحم البطولة، ولم يجرؤ الغزاة على دخول المدينة إلا بعد أيام، وكانت مدينة خان شيخون تغص بالممتلكات والبضائع فشدة القصف لم تترك مجالا لأن يخرج أحد شيئا منها، فوجد عناصر عصابات الأسد ذلك صيدا ثمينا فظنوا أنهم فازوا به، وصحيح أننا خسرنا بلدا لكننا ربحنا مبدأ وحرية ودينا، سلبت ممن والى تلك العصابة، فليهنأ كلٌّ منا بما أخذ. ولا شك أننا سنعود يوما كما تعود أسراب السنونو.