“الحمد لله على سلامة الشباب” “بارك الله فيكم ما قصرتوا”.
تمت المهمة بنجاح وصلت المؤازرة وفك الحصار عن مجموعة اقتحامية توغلت ببلدة خطاب شمال حماة.
ذكرى لا أستطيع أن أنساها واحدة من المواقف العظيمة التي مرت معي خلال المعارك التي خضتها في الثورة السورية كنت أحد أفراد مجموعة اقتحامية بداية ربيع عام 2017، كنت متحمسا ومتلفها لدخول تلك البلدة، أجريت مع رفاقي معسكرا بسيطا لمدة أسبوع بريف إدلب الجنوبي تمهيدا للمهمة التي أوكلت لنا، كان حماس الشباب واندفاعه قد أبعد عني جميع خيوط الحذر والتأني خاصة مع افتقاري للتجارب الحقيقية حيث كنت حديث عهد بهذا النوع من المعارك.
كان قائد مجموعتنا ” أبو البراء” مندفعا فحاله كحالنا، هو الآخر متحمس للمهمة سيما وأنه ابن مدينة حماة التي لا تبعد سوى بضع كيلومترات عن بلدة خطاب.
انطلقنا صباحا نحو بلدة حلفايا شعرت بالزمن يسير ببطئ آه كم هو بعيد المساء، جلسنا في إحدى نقاط التجمع، تناولنا وجبة الإفطار، ثم جاء أحد القادة وشرح لنا الخطة ومحاور الهجوم وطبيعة المنطقة وماذا يملك العدو من عتاد وكان الشرح دقيقا ومفصلا، ثم أخذنا استراحة حتى وقت الغداء، بعد الغداء تم توزيع الذخائر وكانت هناك كلمة إيمانية لأحد الدعاة، بدأت نبضات قلبي بالتسارع فالمعركة أوشكت على البداية.
عند الغروب كنا في قمة الجاهزية وما إن هبط الظلام حتى أُمرنا بالتحرك، صعدنا السيارة وأصوات التكبير تتعالى والهمم تعانق السماء، تعلو أصواتنا أحيانا وتخبو حينا عندما تتعب الحناجر، وفي إحدى استراحات الحناجر أثناء الطريق صرخ قائد مجموعتنا : ” الله أكبر بدأ العمل على صوران وأخدنا أول المباني” اندفعنا خلفه بالتكبير فشعرت أن السيارة باتت تهتز من تحتنا، ما هي إلا دقائق حتى وصلنا لنقطة كان يتوجب علينا الإكمال سيرا على الأقدام، نزلنا بسرعة قام أبو البراء بتفقد سريع لنا، كان لا بد من بعض الإرشادات السريعة وهو يسير بيننا ويضع يده على أكتافنا، ثم قال : ” أنتم أمانة برقبتي التزموا بالتعلميات” انطلقنا نسابق الزمن، كانت مهمتنا التسلل حتى ساتر العدو ومباغتته مستغلين ظلام تلك الليلة مع وجود بعض السحب الحاجبة لضوء النجوم.
وصلنا المنطقة المطلوبة دون أن يشعر بنا العدو جثينا على الأرض منتظرين شارة البداية، ثم أخذ أبو البراء يتجول بيننا هامسا في أذننا :” هل أنت جاهز… سنصبح في حماة إن شاء الله… شد الهمة….” بعد دقائق قليلة انطلقت شارة البداية من قذيفة “أبو محمد” التي أصابت إحدى دشم العدو المتقدمة، أطلقها وهو يصرخ بأعلى صوته: ” الله أكبر” ثم انطلقت بنادقنا تنهال على سواتر العدو وتسابقنا نحو الساتر، وصلنا تباعا فوجدنا جثتين ممزقتين بقذيفة أبي محمد، بينما ولى الآخرون الأدبار انطلقنا خلفهم كالطيور الجارحة، وبعد ربع ساعة توقفنا فوجدنا أنفسنا بين عدة سواتر عالية يكتنفها ظلام دامس وعشب طويل مبلل.
بينما نحن نتساءل عن المنطقة جاء من خلفنا صوت أجش مرتجف : ” من أنتم؟ ” أجاب بعضنا: بمن أنت؟ والبعض التزم الصمت، ليبادر أبو البراء بإطلاق النار نحوه دون تردد لكن الظلام منعه من إصابته، قلت: انتظر لعله صديق، أجاب أبو البراء: ” انبطحوا انبطحوا …..”.
نفذنا الأمر مترددين ليعيد الصوت نفسه النداء مهددا:” سلم حالك يا مسلح ……” بالإضافة لألفاظ نابية.
على الفور قام أبو البراء بالإشارة لنا بالتزام الصمت وعدم إصدار أي صوت، ثم قام بتوزيعنا على شكل حرف z بين تلك السواتر مقسما إيانا لأربع مجموعات كنت مع رفيقي “حسن” التزمنا ساترا ترابيا ارتفاعه يقرب من المتر ونصف، بدأت الحيرة تتملكني والأفكار تتوارد سريعة خاطفة علي، قاطع تلك الأفكار حسن قابضا على يدي وهامسا في أذني: ” لا تخاف صار معنا متل هيك مرة بريف حلب الجنوبي”.
ثم بدأت النيران تنهال علينا من الأمام والخلف، بدأنا بالرد على مصادر نيران العدو، لكن أبو البراء زحف بين المجموعات الأربع وأعطى أمرا بالاقتصاد بالذخيرة وعدم إصدار أي صوت يكشف مواقعنا بشكل دقيق. حمدنا الله على وجود السواتر التي شكلت لنا حصنا منيعا.
بدا أبو البراء هادئا منضبطا لم يظهر عليه التوتر ، ثم بدأ يتواصل مع غرفة العمليات طالبا مؤازرة.
مع تقدم الوقت باتت الأفكار والخواطر السلبية تسيطر علي، لست الوحيد بل بدأ حسن يشاطرني ذلك لكنه كان متفائلا أكثر مني، بدأت أفكر بالأسر أو القتل، وأكثر ما كان يخيفني أن يصاب أحدنا، فالإصابة وإن كانت غير خطرة كانت تعني الموت في ظل الحصار الذي كنا نعيشه.
بعد عشر دقائق التي كانت عبارة عن سنة كاملة بالنسبة لي أخرج أبو محمد القذيفة الثانية ووضعها في قاذف RBG منتظرا إشارة أبي البراء، لعله يسكت نيران العدو نوعا ما، لكن أبي البراء لم يعطه أمرا بل قال: انتظر.. حتما سيحاول العدو التقدم علينا بآلية ثقيلة، كنت مخالفا لذلك الرأي وقتها تمنيت لو كنت الرامي لما ترددت لحظة بالتنفيذ
بعد قليل بالفعل سمعنا صوت عربة مجنزرة تهدر من بعيد قادمة باتجاهنا، ارتبكنا وبدأ الخوف يسيطر علينا، لكن أبو البراء صرخ بصوت مرتفع : ” أبو محمد جاهز ….؟
أجاب أبو محمد: جاهز جاهز ….
اقتربت المجنزرة بشكل يسمح باستهدافها، فرمى أبو محمد قذيفته لكنه لم يحقق هدفا، كدت أن أنهار عندما علمت ذلك.
لكن كان مع ” خالد” مساعد أبي محمد قذيفتين آخريين إحداهما أحضرها أبو البراء بعد إصراره على غرفة العمليات بوجود قذيفة احتياطية، صرخ أبو البراء: ” لا تضرب حتى أقول لك….” بلهجته الحموية المحببة لقلبي، فلما أن أصبحت المجنزرة بالهدف قال أبو البراء الآن يا محمد الآن يا محمد، وانطلقت القذيفة كالسهم لتعطب تلك المجنزرة بعدها هدأت نيران العدو.
ثم سمعنا إطلاق نار خلفنا وإذا بمجموعة ” أبو زياد” تتقدم لفك الحصار عنا بعد أن سقطت رحبة خطاب بأيدينا وتبقى فقط المنطقة التي نحن فيها، لينسحب بعدها عناصر عصابات الأسد تاركين خلفهم مدفعا عيار 57.
عندما وصل إلينا رفاقنا انهمرت دموعي دون أن أستطيع كبحها لم يسعفني الكلام فاكتفيت بالبكاء ومعانقة الأخوة الذين كانوا يقولون لنا:”الحمد لله على سلامة الشباب، بارك الله فيكم ما قصرتوا”.
ثم دخلنا بلدة خطاب عند بزوغ الفجر، وبعد صلاة الفجر توجهت لأبي البراء وضممته باكيا عاجزا عن شكره.
كانت تجربة عظيمة تعلمت منها الكثير، تعلمت ضبط النفس، تعلمت كيف أكون قائدا أحمل المسؤولية بأمانة، تعلمت أن أكون إيجابيا كرفيقي حسن وألا أكون متشائما، تعلمت حقيقة أن النصر صبر ساعة وربما يكون دقائق بل وحتى ثوانٍ معدودة.