تبقى ذكرى مؤلمة ومنعطفا تاريخيا في حياته، هي بقعة سوداء خلال أعوامه الـ 66، لم يدر كيف حصل ذلك وكيف كان، لكن كل ما يدريه هو أنه ولد من جديد بدون رحم بيد أن آلام المخاض لم تكن غائبة بل كانت قاسية أوشكت أن تودي بحياة الجنين الذي بلغ من العمر ستين عاما.
الحاج أحمد رجل ربى أجيالا وزرع فيهم بذور الخير وأنار بصيرتهم، لا يوجد رجل أو شاب إلا ويعرفه، إما لأنه كان طالبا عنده أو سمع عن صيته المشرف، فهو مدرس في ثانوية مدينة خان شيخون يتصف بالنشاط والإبداع.
الحاج أحمد كان كحال الكثير من أرباب الأسر السورية يعيش حياة هادئة ومتزنة ولديه أسرة بسيطة ملتزمة في منزل يمتلئُ بالحب والاحترام ومن البديهي أن تثور تلك العائلة مع بداية الثورة السورية لأنها تحمل في طياتها بذور الخير والأنفة والكبرياء السوري الذي كان يعارك ذل الأسد والبعث طيلة عقود، كانت تلك الأسرة تحافظ على الهوية العربية المسلمة أمام عواصف التغيير الممنهج للطغمة الحاكمة المنسلخة عن كل قيمة ومبدأ.
لدى الحاج أحمد ولدان ذكران كانا من أوائل الثائرين في البلدة الذين صدحت حناجرهم بإسقاط النظام، ثم من الذين حملوا السلاح لردع يد الغدر عن عرض البلدة وحرمتها، لم يستطع الحاج أحمد أن يوقف أولاده لأنه وقع بين نارين عاطفة الأب وواجبه تجاه أهل بلده، فكان يرى أنها فرصة لا تفوت للتخلص من هذا النظام الذي عاث فسادا لكنه كان يخاف على أولاده من حملات الأمن التي تشبه الكلاب الضالة الشاردة ليلا نهارا تجوب الشوارع.
خلال الثورة كان كل شيء يسير متسارعا والأحداث تجر بعضها بعضا منها ما يصعب استيعابه لهول وقعه ومنها ما تعيشه أسرة الحاج أحمد بكل تفاصيله ويرسخ في ذاكرة تلك العائلة، إلا تلك الحادثة عندما تلقى أحد أبنائه رصاصة في النخاع الشوكي من قناص عصابات الأسد وهو يعبر شارع الموت كما سماه أبناء المدينة ليتحول في لحظة واحدة من شاب جامعي يملؤه العنفوان والحيوية لعاجز مقعد يحتاج من يعيله، صاعقة على تلك العائلة لكنها ليست الأقوى.
بعد سنتين اضطر الحاج أحمد للمرور على إحدى حواجز النظام المجرم وهو الشيخ الكبير صاحب الأمراض المزمنة والشعر الأبيض واليدين المرتجفتان والظهر الذي أحنته أهوال الحياة وصواعقها، كل ذلك لم يشفع له أمام ذئاب يسيل لعابها وتملك قلوبا صماء كحجارة ملساء، أُنزل الشيخ الكبير ثم سمع كلمات نابية….أه أنا لماذا …. أنا الذي كنت أعلم طلابي الخير وحسن المعاملة، أسمع اليوم علج لم يتجاوز سن أحفادي يتمادى كأنه ثعبان منتفخ.
اقتيد الحاج أحمد إلى فرع الأمن بمدينة حماة وهو يتلقى صفعة من هنا وركلة من هناك، وفي كل مرة كانت أمر من الموت نفسه، أحس أنه وقع في بئر مظلم هنا نهايتي ……. لم أكن أتوقع أن تكون خاتمتي هكذا …. بتلك الكلمات كان يحدث نفسه، حاول أن يتخيل المستقبل لكن الأفكار والخواطر هربت فهي لا تحب زنازين الأسد، حاول فحاول استجدى المشاعر فهربت هي الأخرى، أحس أنه جماد لا أفكار ولا مشاعر، كان يظن نفسه قد مات لكن أثناء تلك الظنون كان يتلقى ضربة أو لكمة فيحس بالألم ليتيقن أنه مازال حيا لكن مع وقف التنفيذ.
حال أهله في البيت لم تكن أفضل، فخبر اعتقاله جعل الزوجة تجثو على ركبتيها فالقدمان أعجز من أن تحمل ذلك الخبر المدوي، لأن كل السوريين يعروفون ما معنى أنك معتقل في زنانين الأسد العفنة، هام الأولاد والأم على وجوههم يسألون.. يستغيثون… يبحثون… عن أي بارقة أمل عن أناس يملكون معارف في نظام الأسد، عن الذين يتاجرون بالمعتقلين، عمن يعرف أي خبر ولو كان كاذبا، عن أبيهم الذي كان الحافز الوحيد لهم للحياة السوداء الممتلئة بالبراميل والمجازر وغاز السارين.
هرب النوم من أجفانهم فارقت البسمة محياهم أُطفىء السراج وانتهت الآمال والأحلام، وبدلت كوابيسا مظلمة شرسة تقتحم الخواطر والقلوب متى شاءت وكيف شاءت، في أقبية الأمن كان الذنب الوحيد للحاج أحمد أن لديه اثنان من أولاده حملوا السلاح للدفاع عن أهلهم، وجرمه أنه وأولاده أرادوا الحرية فلما استعصت عليهم طلبوها بالسلاح، كان الأب يريد أن يضحك من سخافة وسذاجة المحققين لكن الألم سلب منه تلك الصفة البشرية.
شهر إثر شهر تفاقم وضع الأب الصحي فجره السجان للطبيب الجزار الذي كان يتمتم ” حاج تكذب يا ….” تمنى الحاج أحمد الموت لكنه لم يكن يأتي فلديه بقية حياة، لم يتمكن المحققون أن يحصلوا على معلومات جوهرية من الحاج أحمد فكان صامدا راسخا، يردد دائما في نفسه أنا ميت لا محالة فلماذا أميت معي غيري من الثائرين.
بعد ثلاث سنوات من المعاناةِ والألمِ تمكنَت الفصائل في إحدى المعارك الجارية شرق السكة أن تأسر عناصر لعصابات الأسد، لتتم عملية تبادل للأسرى فكان الحاج أحمد ممن كُتب له النجاة والخروج في عملية التبادل وبالفعل أُفرجَ عنه، ليولد من جديد، لكن الذكرى لم تُمح من حياته.
خرج بعد معاناة مريرة وتجربة سوداء، فهو دائم التحديق والسكوت، قليل الكلام، كثير الحزن، دائما يفكر بآلاف المعتقلين عندما يضع رأسه لينام، ويقول كان الله في عونهم وخفف عنهم.