كان يمضي الخدمة الإلزامية عندما سمع أخبار الثورة، لكنه لم يعلم عنها الكثير إلا عندما أخذ إجازة بعد محاولات كثيرة مع الضابط الذي طالما كان يحدثهم عن المخربين والمؤامرة الكونية، عند وصول خالد الخطيب أحد سكان جبل الزاوية قريته ومن الوهلة الأولى بدت ملامح الثورة تتضح لديه شيئا بعد شيء، لم يفكر خالد طويلا حتى حسم أمره بعدم العودة لجيش الأسد فالحقيقة أصبحت جلية أمامه.
كحال كل المنشقين عانى خالد في بدايات انشقاقه من الحملات الأمنية، ففي إحدى المرات أحرقت دكانة السمانة المصدر الوحيد للرزق التي تعتمد عليه عائلة خالد من قبل عناصر الأمن التابعة لميليشيا الأسد، أما خالد فكان يخرج من قريته مع كل حملة خوفا من قطعان الشبيحة التي ربما تمسك به وبالتالي مصيره الموت المحتم.
انضم خالد للجيش الحر مثل كل المنشقين الذين قطعوا العهد بالدفاع عن ثورتهم وأهلهم، حمل السلاح المادي لكن السلاح المعنوي كان أقوى، كان في كل مرة يجلس مع أبيه فيقول الأب بعد أن يتنهد ويفرك عينيه الذابلتين لا يمكن أن تهزم النظام بهذه البندقية، فيرد الابن معنا الله يا أبي، كان يقولها بكل يقين.
خالد تنقل بين الفصائل وشارك بمعارك التحرير في حلب وإدلب وأرياف حماة واللاذقية، وخطت كل معركة خطوطا عريضة في ذاكرته لا يمكن أن تمحا، لعل أبرزها إصابته في إحدى معارك الساحل بفخذه ومحاصرته هو وثلاثة من زملائه الذين أصروا إلا أن يسعفوه ولو كلفهم ذلك حياتهم، شهد الشدائد وركب المخاطر هبط الوديان وصعد الجبال لم تثنه شراسة العدو ولا شدة الحرب عن شغفه بالمعارك ورائحة البارود.
معركة كفرنبودة إحدى محطاته الكبرى ومعاركه الأسطورية، شهدت أرض كفرنبودة معارك ضارية عندما شنَّ المحتل الروسي هجوما على تلك البلدة، خالد كان ضمن صفوف الفصائل الثورية عندما طلب منه أن يجهز نفسه لاقتحام البلدة بعد توغل المحتل وعصابات الأسد في الحي الجنوبي للبلدة، كعادته بدأ خالد بقراءة القرآن وتكلم مع أمه طالبا الدعاء والمسامحة.
خرج مع عشرة من رفاقه من مقره يشجع بعضهم بعضا ويتوعدون العدو ما إن اقتربوا من مكان المعركة حتى استـهدفتهم طائرة استطلاع بيد أنها لم تتمكن من إصابتهم، أحست المجموعة الطريق طويلا من شدة القصف وكثافة الطيران المعادي.
اضطروا للنزول وإكمال الطريق سيرا على الأقدام، كان يتلقفهم المسعفون وهم حاملون المصابين، يقول خالد: بدأت أنظر إليهم وأنا في طريقي لأرض المعركة وهم يتأوهون من شدة الألم وبعضهم قد فقد إحدى أطرافه، لا أنكر بدأ شيء من الخوف يتسلل إلى قلبي، لكن صيحات التكبير شحذت من عزيمتي وأيقظت في دافع الإيمان بأن القدر مكتوب وما يحصل ما كان ليكون لولا إرادة الله.
شيئا فشيئا كدنا نصل لساحة الاشتباك استقبلنا أحد الميدانيين، الغريب في الأمر ابتسامته التي كانت تعلو وجهه وعباراته التفاؤلية: ” الوضع تحت السيطرة، جثثهم عبت الأرض”، لا أنكر لم أكترث كثيرا بكلامه فتفكيري بأصوات الاشتباكات، دخلنا خلف دليل، فأوصلنا خلف بناء من الحجر مؤلف من طابقين قد تهدم الطابق العلوي إثر قصف مدفعي، أشار الدليل إلى الأمام وقال هناك العدو وإذا به لا يبعد عنا سوى مئة متر، كان هناك بعض المشاة يتقدمون أخذنا مواقعنا واستعدينا، وإذا بها صوت دبابة يعلو صوتها رويدا رويدا، وبدأت تقصف على يمنيننا وعلى يسارنا وخلفنا وفتح المشاة نيرانهم باتجاهنا بدأنا نرد عليهم، خرج رامي قاذف RBG وبدأنا بالتكبير فرمى القذيفة الأولى لكنها لم تصب الهدف، والدبابة تسير والقصف يشتد وقفنا حيارى أننسحب أم ننتظر، هنا رمى الرامي الحشوة الثانية فأصيب (الجنزير) حمدنا الله وكبرنا، صاح أحد رفاقي” واسمه مأمون: (هلق بلشنا) واندفع خلف جدار يركض كأنه البرق يحاول أن يلتف على العدو واشتدت المعركة، وصل إليهم وتمكن من قتل خمسة منهم، بعدها سقط شهيدا، لكن العدو أصيب بالهلع وبدأ يحاول التراجع ظنا منه أنه وقع في كمين فكرينا عليهم مندفعين غير آبهين بطائرات الاستطلاع التي ترافقنا أينما حلينا وارتحلنا، واستطعنا أن نقتل منهم العشرات وإخراجهم من الحي الجنوبي من البلدة بعد معركة ضارية استمرت لساعات.
بعد خروجهم وانسحابهم بعرباتهم المدرعة بدأت السماء تمطر علينا قذائف وصواريخ فما نعرف من أين تأتي فضلا عن البراميل وغارات الطيران الحربي، لم نكن ندري أين نحتمي وبم نحتمي التجأنا إلى الله بالدعاء واتخذنا من الصبر درعا وزاد، حتى هبط الليل بعد ساعتين، والليل لم يكن بأفضل حال من النهار حيث أحالت القذائف الليل نهارا.
إلا أن النصر كان حليفنا حتى وإن انحزنا عن الأرض التي ارتوت بدماء شهدائنا وجرحانا ، فقد استطعنا أن نصمد لأيام وأيام أمام ترسانة ربما تنهار دول أمامها، بتلك الكلمات كنت أواسي رفاقي بل ونفسي قبلهم، واليوم أنا مازلت مرابطا على ثرى الشام قاطعا على نفسي عهدا بألا أترك السلاح حتى إسقاط عصابة الأسد، وطرد هؤلاء المحتلين الذين دنسوا بلادي ونهبوها وشردوا أهلي.