كعادة أي شاب سوري عندما كنت أبني أحلامي في مقتبل العمر، كان علي أن أذهب إلى الخدمة كما يسميها أهل حينا، وكان العرف في بلدنا أن الالتحاق بالجيش يصنع الرجال، فكنا نسمع الحكايات والروايات التي تشبه الأساطير من أفواه الرجال عن سنوات أمضوها في الجيش .
التحقت بمكان التجمع في مدينة حلب وهو “ثكنة هنانو” وكان عنفوان الشباب يتجسد في، وفي الساعات الأولى تعرضت لكلمات نابية من مساعد في الجيش حفرت في نفسي وأخذت مني مأخذا بالغا، ثم سمعت اسمي يذاع بين الحشود وعلمت بعد قليل أنني سأساق إلى دمشق لأخضع لدورة عسكرية، وكنا وقتئذ في الشهر الأول من عام 2011.
خضعت لدورة عسكرية قرابة الشهر والنصف اكتشفت فيها أن الجيش لا يصنع الرجال بل يحطمهم ويصنع رجالا منهزمين داخليا تكرس في داخلهم نظرية القطيع فلا يرون إلا ما يريهم القائد، عدت لأهلي أحمل شوقا كبيرا للديار والأهل لكني فوجئت بأن أهل الحي يتكلمون عن شيء اسمه ثورة لم أكن أعلم ما معنى الثورة في البداية.
انتهت إجازتي وأردت العودة فجلس معي أبي وتحدث إلي عما يحصل لكن كلامه كان ضبابيا كان خطابه توعويا أكثر من الأمر وآخر حديثه طلب مني الحذر وتقوى الله، ثم أوصاني بأن أتواصل معهم باستمرار مهما كانت ظروفي.
بدأت أشعر أن الحياة باتت معقدة إلا أنني بدأت أكون مفاهيم جديدة بعيدا عن النظريات التي حاول الضباط ترسيخها في دماغي عن سوريا الأسد…وإلى الأبد… وغيرها… توالت الأسابيع وكنا نسمع شذرات من أخبار بالإضافة لحديث الضباط عن بعض المخربين إلا أنني بت أكثر وعيا بعد مقاطعة المعلومات الواردة من هنا وهناك ومن مكالمات أبي الهاتفية المشفرة بعض الشيء.
منعنا من الإجازات ومن استخدام الاتصالات، شهر واثنان وثلاثة والشهور تتوالى إلى أن وصلنا لشهر شباط عام 2012 جاءت سيارات لنقلنا إلى مدينة إعزاز، في بادئ الأمر لم نكن نعلم الوجهة، وفي الطريق علمنا أننا سنقوم باقتحام مدينة إعزاز وكنا في يوم الخميس وقتها، جلست مع مجموعتي المؤلفة من 11 عنصرا واتفقنا على عدم المشاركة بهذه الجريمة، والانشقاق جميعا.
في صباح يوم الجمعة جاءنا الأمر بالبدء بالرماية على مدينة إعزاز، فنحن زمرة مدفعية بدأت المدافع بالقصف العنيف على الأحياء السكنية، إلا زمرتنا لم نقم بأي شيء، كرر الضابط الأمر مرات ومرات إلا أننا لم نستجب فلم نكن نعلم ماذا سنفعل، ولما أن اشتد القصف قام ثمانية من رفاقي بالركض نحو المدينة مستغلين مناوشات مجموعات من الثوار للمجموعات التي حاولت التقدم باتجاه المدينة.
جلست خلف المدفع ووضعت قذيفة وشرعت في تجهيزها نظر إلي رفيقاي اللذين بقيا معي وهما عبد الرحمن ومحمد ثم صرخا: ماذا تفعل؟ هل ستقصف هؤلاء المساكين؟ أجبتهم طبعا لا، لكن يجب أن نساعدهم، فقال لي عبد الرحمن كيف؟
قلت لهما: لم أستطع أن أغادر أرض المعركة وأنا أشاهد أولئك الكلاب يحاصرون المدينة، نظرت إلى محمد وقلت : تمهل سوف نضرب زمر المدفعية قبل أن نغادر. أجابني هل أنت مجنون؟ قلت نعم وتبسمت وبدأنا بالصراخ الله أكبر بعفوية.
استهدفنا الزمرة الأولى فكانت الإصابة محققة مئة بالمئة، ثم استهدفنا الزمرة الثانية فكانت أيضا إصابة محققة، فبدأ الجيش يتخبط وبعدها بثوان أحسست أنني بالهواء، حيث تم استهدافنا، كان بجانبنا جرف بدأت أتدحرج حتى وصلت لطريق زراعي سلكناه أنا ورفيقي دون أن نعلم أين نحن، لكن كل الذي نعلمه أننا قمنا بواجبنا وأفشلنا الهجوم.
بعد أن ابتعدنا عن ساحة المعركة جلسنا قليلا ثم انطلقت منا ضحكات لا نعلم سببها ألأننا قمنا بهذا العمل البطولي؟
أم لأننا نجونا؟
ثم أكملنا سيرا على الأقدام نحو مدينة عفرين بعد أن غيرنا ملابسنا العسكرية، فرأينا أن نفترق فيها حتى لا نلفت النظر فسلك كل واحد منا طريقه الذي لا يعلم نهايته، كان القلق والخوف يسيطران علينا، ذهبت إلى موقف الحافلات وأردت أن أستقل سيارة لكنني ترددت قليلا فاخترت أن أكمل سيرا على الأقدام نحو مدينة حلب خوفا من دوريات عصابات الأسد وميليشيا pkk التي كانت تعمل معهم ضد الثائرين في المنطقة.
وصلت إلى حلب بعد عدة أيام كان الجو باردا وكنت أبيت في الأماكن العامة وأتجنب الاحتكاك مع الناس خوفا من افتضاح أمري، ثم اتجهت نحو طريق دمشق فوجدت حافلة متجهة نحو مدينة حماة أشرت إليها بالوقوف فتوقفت، فهمست في أذن السائق بأني أريد الذهاب إلى حماة، أجابني “اطلاع عمو”، فقلت له لكنني عسكري منشق فأشار بإصبعه أن اصمت، كان يوقف الحافلة قبل الحاجز العسكري ويطلب مني النزول والمسير إلى ما بعد الحاجز ثم الصعود وهكذا حتى وصلت إلى بيتي.
استقبلني أهلي بكل حفاوة وسرور كأني ولدت من جديد فكان الاتصال قبل ذلك مقطوعا بيني وبينهم مدة طويلة ولا يدرون عني شيئا، وبعد أشهر قليلة انضممت إلى إحدى الفصائل لأشارك في تحرير بلادي من عصابة مستبدة سخرت الجيش ومقدراته لخدمة الأسد المجرم وأعوانه، بدل أن يحارب المحتلين.