_سأعود يوما يا أمي سأعود لا تبكي.
_أخشى ألا أراك ثانية يا بني فما بقي أكثر مما مضى.
_إن شاء الله سأعود.
عثمان ابن العشرين عاما شاب في مقتبل العمر، أحد طلاب الأدب الإنكليزي. طويل القامة بشرته السمراء الحورانية تعطيه هيبة ووقارا، عثمان حاله كحال الشباب السوري هتف للثورة منذ بدايتها أعطاها شبابه وقلبه وأباه الذي أخرجه بيداه من تحت ركام بيت الطفولة الذي تربى به.
لن ينسى عثمان ذلك اليوم عندما قصفت طائرة عصابات الأسد بيته الذي شب فيه لن ينسى صبيحة الجمعة عام 2014 صبيحة كان السواد يلفها.
استشهد أبو عثمان وثلاثة من أخوته وبقي عثمان وأمه وأخته التي تزوجت فيما بعد، بقوا هؤلاء الثلاثة من عائلة مزقتها صواريخ الإجرام.
عثمان صاحب النخوة العربية والحماس المتقد لم توقفه رجاءات أمه المتكررة وبكاء أخته أم عبد الرحمن عن اتباع مسيرته فكان ممن حمل السلاح بوجه قاتل أبيه وأخوته يصارع المحتل والمستبد طالبا ثأرا كان يؤمن أنه سيدركه يوما ما.
عثمان كان مقاتلا شرسا خضع لعدة إصابات لكنها كانت ليست بتلك الخطورة، كان يتعمد كتمان موعد المعارك عن أمه كيلا تحزن أو تقلق فكان يوهمها أن عمله فقط حراسة المقرات العسكرية للفصيل الذي ينتمي إليه.
بعد تدخل المحتل الروسي وبداية التراجع للثورة على حساب الاحتلال كانت الأم تبدي قلقها أكثر فأكثر فأم عثمان لا تملك من هذه الدنيا سوى عثمان الذي ترى فيه بارقة الأمل بعد أن كسر إجرام الأسد بيتها وعائلتها.
ظهرت في المناطق التي كان يتقدم عليها المحتل الروسي ما يسمى بالمصالحات أو التسويات. ومع كل سقوط منطقة كان يدار الحديث بين عثمان ورفاقه في نقاط الرباط وفي حانوت أبو أحمد وأمام منزل عثمان تحت الشجرة، لم لا يقاومون لم لا يقفون لم ولم ولم آلاف الاستفسارات والتساؤلات تكتنف المجلس لكن لم يدر عثمان أن الأمر اقترب.
بدأت حملة شرست على محافظة درعا وباتت المناطق تسقط شيئا فشيئا. كان عثمان ورفاقه يطيرون من معركة لأخرى وكانت الأم والأخت تخافان تجدد الكارثة فتفقدان قلبا آخر.
مع اشتداد المعارك بدأت أم عثمان تحاول إقناع ابنها باللجوء نحو الأردن حيث أخواله الثلاثة ميسوري الحال فظنت الأم أن الأمر هناك أفضل، مرارا وتكرار يتجدد الحديث عارضة الأم الزواج على عثمان من ابنة خاله لعل يذلك يغير شيئا في الإرادة الصلبة.
لكن عثمان كان مصرا على البقاء والأخذ بثأر أبيه، اقترب العدو من قريتهم هاج الناس وبدأت الأراجيف والإشاعات، وبدأت عصابات الأسد تدس عروض المصالحات عبر عملائها.
في إحدى نقاط الرباط الحامية وفي إحدى الليالي جرى حديث عن المصالحات بين عثمان وأبو عبدو أحد رفاقه، فكان أبو عبدو يحاول إقناع نفسه بالتسوية ويبرر قائلا كيف سنخرج من بيوتنا، سمعت أن من يخرج للشمال يموت جوعا، سمعت أن من يخرج للشمال يقتل على الطريق. وكيف سنترك أهلنا وديارنا، ربما المصالحة أفضل، رد عليه عثمان مستغربا ومن قال لك أن العدو سيدخل أرضنا وإن دخل فسيدخل من أمثالك وقبض على يد أبو عبدو وهمس في أذنه: “والله ما بصالح لو بملكوني سوريا”.
لكن إصرار عثمان ومن كان معه لم يكن كافيا ليقف أمام سياسة الأرض المحروقة لدى الروس والميليشيات الطائفية، إنه قدر الله الذي لا يغير ولا يبدل، حوصرت القرية وبدأ الناس يتكلمون عن مصير الشباب عن مصير النساء. من سيخرج للشمال؟، ومن الذي سيصالح قاتل أهله ؟.
يومها عاد عثمان للبيت مهموما وجد أمه في صلاتها تدعو وتدعو، قبل يديها ورأسها لكن الكلمات عجزت أن تخرج من الأم وابنها فكانت الدموع والشهقات هي من تتكلم، تارة يمسح الابن دموع الأم وتارة الأم تمسح دموع الابن.
حاولت الأم للمرة الأخيرة مع عثمان ليخرج نحو الأردن أو يبقى لعل الأمر يتغير، لكن عثمان لم يكن ليرضى أن يترك بندقيته أو أن يصالح من قتل أهله. وكان الوداع الأخير قائلا سأعود يا أمي يوما ما سأعود لا تبكي.
خرج عثمان منتشيا لأنه احتفظ بثوريته، احتفظ بكرامته، احتفظ بهويته الحورانية التي أنفت الظلم والذل. توجه نحو الشمال المحرر ليلتحم مع إخوانه هناك ليعود يقارع الظالمين والمحتلين فما زال في قلبه ثأر لن ينطفئ إلا بالقصاص من القتلة وإعادة سوريا حرة يعيش أهلها كرامة وإباء وأنفة.
ومازال اليقين يملأ قلبه أنه سيعود يوما للأرض التي نشأ فيها عزيزا فكأنه يرى أمه تطلق الزغاريد الحورانية فرحا بقدومه ممتشقا بندقيته ومصطحبا زوجته وابنته شام ذات الستة أشهر.