قصتي ليست غريبة ولا استثنائية، ولكن فيها الكثير، فربما يشاركني القصة ذاتها ملايين السوريين إلا أنها جرح لا يفهمه سوى من عاشه.
أنا صاحب القصة، واسمي محمود، وأنا في العقد الثالث من العمر؛ كنت أسمع عن الحروب وعن تهجير الفلسطينيين وعن ظلم اليهود للعرب والمسلمين، فكانت الروايات والقصص تشبه الخيال فكنت أصدق بعضها وأتوقف عند بعضها الآخر.
وجاء اليوم الذي أدركت فيه حقيقة تلك القصص، إذ لا يخفى على الكثيرين ما عاناه ويعانيه ريف حماة الشمالي كباقي مناطق سوريا أثناء الثورة السورية في ظل الغزو الغاشم الذي شنته كل قوى الشر في العالم على بلادنا.
في قريتي كانت المعارك مبكرة فالحقد الطائفي من القرى المجاورة وضراوة قمع المظاهرات اضطر أبناء المنطقة إلى حمل السلاح، وكنت أنا من بين من حمل السلاح بعد تعرضي للاعتقال على حواجز عصابات الأسد عدة مرات أثناء ذهابي إلى الجامعة في مدينة حلب، وكنت أتعرض كل مرة للتعذيب والإهانة لا لشيء سوى أني ابن الريف الحموي السني، ذلك الكم الهائل من الطائفية والإجرام دفعني إلى حمل السلاح في وجه من غزا قريتي واعتقل أصدقائي وأقربائي أو قتلهم
ومع تطور المعارك ودخول المحتلين الروسي والإيراني باتت قريتنا خط مواجهة يستحيل العيش فيها، لكن بعض الشباب من أبناء القرية صمد فيها لحمايتها وتفقد المنازل بعد كل غارة أو صاروخ يسقط فوق أبنيتها الشامخة، وكنت من بينهم فعلى الرغم من خروج أهلي إلى المخيمات على الحدود التركية آثرت البقاء في المنزل الذي ولدت وترعرعت فيه، مع كل المخاطر التي كانت تحيط بي.
ومع بداية عام 2019 بدأ المحتل الروسي بهجمة شرسة على المنطقة برفقة أذنابه من عصابات الأسد والميليشيات الطائفية، شاهدت حينها أرتال النزوح وشاهدت أشلاء الأطفال وأبنية تحترق في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي.
شهدت معارك ضارية صمد فيها الثوار صمودا أسطوريا كنت أقاتل في قريتي وكنت دليلا للثوار من خارج المنطقة وكان بعضهم يتعجب من شجاعتي التي كنت أراها ثقة بالله ثم بالأرض التي أكلت من خيراتها وعشت عليها فلا يمكن لتلك الأرض أن تخذلني يوما، تلك كانت نظرتي إلى بلادي.
حاول العدو التقدم مرارا وتكرارا لكنه كان يعود خائبا يحمل جثث عناصره وضباطه وجرحاهم؛ فأبناء الأرض أقوى من ترسانة الغزاة، وفي يوم من الأيام بدأ القصف في ساعات الصباح الأولى استخدم العدو فيها جميع أنواع الأسلحة حتى غاز الكلور والفسفور والقنابل العنقوية التي من المفترض أنها ممنوعة دوليا في الحروب.
تحولت المنطقة إلى كتلة أشبه بجحيم، بعد ذلك التمهيد العنيف الذي لا يمكن أن يوصف بكلمات، فحاول العدو التقدم ونجح في البداية إلا أنه عانى ما عانى من الهزيمة والخيبة بعد تدمير 3 دبابات وقتل العشرات، ثم أعاد الكرة مرة واثنتين وثلاثة حتى المساء وفي كل مرة كان أبناء الأرض أقوى رغم الإصابات والشهداء.
بتنا ليلتنا نترقب وكنت أحدث رفاقي أما اكتفى العدو بهذا الكم من الخسارة، فيجيبني أحدهم إن جنودهم لا تعني لهم شيئا فهم مجرد وقود، فقلت دعونا ننتظر الصباح، إلا أن العدو بدأ بالتمهيد مع منتصف الليل حتى شروق الشمس، ليبدأ بعدها بهجوم عنيف بمئات الجنود استطعنا في الساعات الأولى امتصاص الهجوم وتكبيدهم خسائر جسيمة، على الرغم من استشهاد عدد من الثوار وإصابة آخرين وصعوبة إسعافهم من شدة القصف وكثافته، حتى وصل بنا الأمر إلى استحالة وصول الإمداد إلينا.
في الظهيرة جاءنا أمر بالانسحاب حفاظا على أرواحنا، ولما سمعت الخبر تجمدت في مكاني، ننسحب !! لماذا ؟ مازالت أرواحنا بأجسادنا فلماذا ننسحب؟ إلا أن الاستمرار هو انتحار بكل ما تعنيه الكلمة، بعد نصف ساعة بدأ القائد بتنفيذ الانسحاب ضمن خطة محكمة، وقامت بعض فرق الهندسة بزرع ألغام بشكل عاجل تعرقل تقدم العدو، ثم بدأنا بالخروج من حي تلو الآخر، وبدأت مدفعيتنا تقصف خلفنا لتأمين انسحابنا، آه لأول مرة أرى قريتي تقصف ولا آسف على ذلك بل أردتها جحيما ونارا على وحوش أخرجوني منها.
لم أشعر بتلك القذائف ولا بحرارة الموقف بل كانت الحياة متجمدة باردة ذات لون رمادي خرجت بخطوات متثاقلة، أحدّث نفسي هل أعود يوما، وددت تقبيل الجدران والحجارة والشجر فكل شيء هنا يختلف عن العالم…
أخرجت من أرضي بغير حق، ولكني سأعود مع إخواني مظفرا منصورا -إن شاء الله- فلن أترك الغزاة يهنأون، فكلي يقين بأن الأرض تلعنهم صباح مساء وأن الشجر يلعنهم مع كل زهر ربيع والحجر أيضا يعاديهم، سأعود يوما حاملا سلاحي، وكأني أرى أمي تدخل بيتنا المدمر مزغردة، وأبي يسجد لله شكرا وينادي: “الله أكبر”، فالغازي مهما تجبر وتكبر فلا بد من يوم حتما فيه سيصغر.