كنت فتى يافعا في مقتبل العمر أرى أمامي أفقا واسعا وأحلم بأحلام كثيرة أخطط لها كأي فتى، كنت أعيش حياة هادئة طبيعية في كنف والدي، لم أكن أعرف حقيقة العالم الأسود بعد، أنا أدعى محمود من الغوطة الشرقية شهدت كملايين غيري من أبناء جيلي بداية الثورة السورية لم أكن أعي حقيقة الأحداث وقتها إلا أنني كنت أشاهد الناس يخرجون بالمظاهرات فيتعرضون للقتل والاعتقال والملاحقة، ظننت وقتها أن من يتعرض للقتل والاعتقال فقط من يخرج في المظاهرات.
ذلك الاعتقاد تغير يوما ما عندما كنت نائما في بيتي برفقة أخوي ذوي الخمسة والسبعة أعوام وأنا ذو الثالثة عشرة، استيقظت على صراخ قوي وبكاء أمي وتكسير الأثاث فتحت عيني فوجدت جسما مموها يقف فوق رأسي لم أدرك ما يحصل ففوجئت بهذا الجسم الغريب يمسكني ويجذبني نحوه ويقول بصوت مرعب ” قوم ولاك ……” وتلفظ بكلمات سمعتها لأول مرة بحياتي لم أفهم معناها إلا أنني فسرتها بأنها كلمات شتم وإهانة.
لم أعرف ماذا حصل ويحصل في البيت فما إن بدأت أستعيد وعي حتى صرت في الشارع وأحدهم يركلني مع ذات الكلمات النابية ويزجني في باب السيارة الخلفي، كان معي بعض شبان الحي والغريب في الموضوع أن الذين وضعوا معي لم يخرجوا يوما في مظاهرة فأحدهم طالب في السنة الثالث بكلية الطب يدعى سامر، وآخر اسمه إبراهيم وهو مصلح الغسالات الذي دائما ما كان يقول أخاف من الخروج بالمظاهرات وأدهم صاحب الدكان في رأس الشارع….
بعد ساعة وصلت السيارة إلى مكان لا أعرفه لأنهم في الطريق أثناء ضربنا عصبوا أعيننا ثم أنزلونا وهم يضربوننا ضربا قاسيا بآلة حديدية فدخلنا غرفة باردة ورطبة وجردونا من الملابس بشكل كامل ثم دخلنا غرفة صغيرة فيها العشرات كدت أختنق لم أفهم لم أنا؟ لماذا أنا هنا؟ لماذا يضربني هؤلاء الوحوش؟ أين أبي؟ أين أمي؟ ماذا حدث بالبيت؟ كل تلك الأسئلة كنت صغيرا لأجد الأجوبة لها.
بعد يومين أخرجوني من الغرفة فظننت أني سأعود إلى أمي ومدرستي ففرحت إلا أنهم وضعوا العصاب على عيني وبدؤوا بضربي مجددا وهم يسوقونني كالبهيمة.
دخلت إلى غرفة فيها شخص كان يسألني أسئلة لم أفهم مقصودها من أنتم؟ من يمولكم ؟ مع مين بتشتغل يا …….؟ لمين تابعين….؟ كم أعطوكم من المال؟ وأنا لا أدري عم يتحدث وكل ما كنت أقول لا أفهم أو لا أعلم كان هناك وحش يهوي علي بعصا من حديد على جسدي النحيل بدات بالبكاء والصراخ وأردد أريد أن أعود للبيت أرجوكم أعيدوني إلى البيت لكن لا فائدة سحبوا يدي بقوة وألصقوا بأصابعي الحبر ووضعوها على عدة أوراق ثم أمر الرجل الغريب بإعادتي للغرفة مع الركل والضرب والكلمات النابية.
في اليوم التالي أعادوا إخراجي من جديد فظننت أني سأخرج لأنهم علموا أني لا أعرف شيئا عن هؤلاء المتظاهرين الذين كانوا يخرجون ويقولون نريد حرية، إلا أنهم لم يكفوا عن ضربي ووضعوني في سيارة مظلمة مع مجموعة كبيرة من الشبان وبعد ساعات وصلنا معصوبي العينين إلى مكان مجهول نزلنا ونحن نضرب ونهان ونسمع كلمات لم أسمع مثلها في حياتي عندها أدركت أني لم أخرج ولن أنال الحرية بعد اليوم، بدأت معنوياتي تنهار، بدأ الأمل يتلاشى، بدأت أتذكر أمي أبي أخوتي مدرستي أهالي الحي أصدقائي ……
كانت أياما سوداء ثم أسابيع ثم شهور ثم سنوات وأنا أعاني الجوع والبرد والمرض والوحدة واليأس لم أكن أعلم شيئا عن العالم الخارجي ولم أكن أعلم عن أهلي كبرت ونشأت بين 4 جدران، تحولت أحلامي وأهدافي الكثيرة الوردية إلى حلم واحد رمادي صعب التحقق وهو الخروج فقط لأرى الشمس مرة أخرى، كان الزمن متوقف منذ أن كنت في الثالثة عشرة كنت جسدا محطما فارغا من المشاعر سوى شعور الألم الذي لم يفارقني طيلة تسع سنوات.
تسع سنوات مضت كانت كفيلة بأن تصنع مني رجلا ناجحا وطبيبا ماهرا كما كانت أمي تردد دائما، لكنها حولتني لهيكل إنسان يقبع في زنزانة مظلمة أشبه بقبر حكمت علي بالموت وأنا حي، الشيء الوحيد المفرح في قصتي أني خرجت من السجن بإحدى عمليات التبادل، لكنها كانت بداية مأساة لا تقل ألما وجراحا عن تسع سنوات مضت.
خرجت من معتقلي بعد أن سلبوا مني نصف عمري، خرجت لأجد أهلي قد قتلتهم نفس اليد التي صادرت إنسانيتي وحريتي، خرجت فوجدت بلدي سوريا يسوده الحزن، وغزاة كالغربان أكلوا خيراتها وقتلوا أهلها، فاليوم أملك قلبا حاقدا كالحجر لا يفكر إلا بالانتقام ممن دمر حياتي وأفقدني أهلي وبلدي.
هدفي الوحيد الذي أنام وأصحو معه هو الانتقام من أولئك الوحوش فلن أضع سلاحي حتى أحقق ما أريده، وأكثر ما يشعل نار صدري أولئك السذج الذين يتحدثون عما يسمى بالمصالحات والتسويات، متجاهلين المئات من أمثالي الذين ما زال لديهم ثأر وحساب لم يحسموه مع عصابات الأسد ومن دعمه في إجرامه.